دروس وعبر من حياة موسى عليه السلام

[1]
موقف طريف و درس حصيف

من المواقف الطريفة التي ربما تدعو للبسمة أحيانا هو التصور أو التخيل الذهني لذلك الموقف حينما رجع نبي الله موسى عليه السلام إلى قومه غضبان أسفا، بعد أن أضلهم السامري، فكان أول ما فعله هو أنه هجم على أخيه هارون عليه السلام وجذبه من لحيته ورأسه جذبا. لقد كان موسى عليه السلام يتميز بقوة جسدية كبيرة ومما لا شك فيه أنه أوجع أخاه وجعا كبيرا حينما فعل ذلك. حينما استحضر ذلك المثل الإيماني المخلص – ما فعله موسى عليه السلام بأخيه هارون عليه السلام وهو الغضب غيرة على الإسلام – أحدث نفسي قائلا: لو أنني التقيت بموسى عليه السلام في الآخرة ـ أسأل الله سبحانه أن يجمعنا به وبنبينا في مكان واحد في مستقر رحمته آمين ـ لقلت له: لقد كنت حقا مثلا أعلى في الإيمان وفي الغيرة على الشريعة الغراء حتى وإن آلمت تلك الغيرة الإيمانية الرائعة أحب الناس إليك لبرهة وجيزة. ولو التقيت بهارون عليه السلام لقلت له: لقد أخلصت نصحك لبني اسرائيل وأديت رسالتك أكمل أداء.

يقول الله سبحانه في تصوير تلك الواقعة ما يلي من كريم الآيات (طه : 83 – 98):

(وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى)؟

(قَالَ: هُمْ أُولاء عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى)

(قَالَ: فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ) [فتنا: امتحنا]

(فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا …)

(قَالَ: يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا)؟

(أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي)؟

(قَالُوا: مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ)

(فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ. أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا. وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي. قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى).

(قَالَ: يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا …)؟

(… أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي)؟

(قَالَ: يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي)

هنا أتوقف لأقول: لم يقصر هارون عليه السلام في الدعوة، وهذا ما أثبته القرآن على لسانه: (وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي) ولم يكن يقدر أن يفعل أكثر من ذلك خشية حدوث فتنة داخلية فرأى الانتظار حتى يرجع موسى من ميقات ربه: (… إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي). وبعد أن فرغ موسى من (الراعي) التفت الى (الرعية) وكأنه يعلمنا وجوب مساءلة الحاكم ومحاسبته قبل مساءلة الشعب. بدأ موسى باستجواب رأس الفتنة:

(قَالَ: فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ)؟

(قَالَ: بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي)

(قَالَ: فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَّنْ تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا)

إذا هناك درس في السياسة الشرعية يتجلى في هذه الواقعة:

– وجود قائد (موسى) ووجود نائب له (هارون) فإن غاب القائد لسبب يتولى النائب تسيير المصالح العامة لحين عودة القائد.

– محاسبة المسؤل الأعلى لأنه صاحب الأمر والنهي ثم مساءلة المتهمين. لقد أخبر الله سبحانه نبيه موسى قائلا: ( … وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ) وفي هذا دليل الإدانة اليقيني، إلا أنه بالرغم من ذلك لابد من مساءلة المتهمين وتوفير محاكمة عادلة لهم ومنحهم فرصة الدفاع فإن أقروا بذنبهم عوقبوا).

– اعادة الأمر إلى نصابه وإعلان التوحيد لله المجيد:

(إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا).

في كل مرة يطالع فيها المرء سيرة موسى عليه السلام يجد فيها معاني كثيرة جدا منها معاني الرجولة والبطولة والفداء والشجاعة والوضوح والاستقامة والقوامة والشهامة إضافة لمعاني الحب والرحمة والحنان والصبر. إن موسى عليه السلام كإبيه إبراهيم كان أمة ولم يكن فردا، ونتعلم منه كل يوم درس مجيد.

سلام على موسى رسول الله

سلام عليه في الخالدين

سلام عليه في الصالحين

سلام عليه في المقربين

سلام على موسى وهارون.


[2]

عجل السامري

يقول الله سبحانه مخبرا حكاية قوم موسى عليه السلام: (… حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ) (طه : 87)ثم يقول: (فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ) (طه : 88)، ويقول في موضع آخر: (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ) (الأعراف : 148). ألقى السامري إلى بعض بني إسرائيل ـ في فترة غياب موسى ـ أن انبذوا حليكم مما حملتموه من زينة القوم ففعلوا. كان السامري فيما أظن من ذوي البصائر فيما يتعلق بالعلوم الطبيعية، ولعله تعلم ذلك في مصر أو في حضارته التي انحدر منها. لذلك يقول الله على لسانه: (بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ …) (طه : 96) أي أنه كان ذا علم في مجال لم يبرع فيه بنو إسرائيل وهو مجال الصناعات اليدوية والتقنية والفيزياء – وفق السقف العلمي لذلك العصر – فعمد للحلي فصهرها ثم قام بتشكيلها على صورة عجل ـ يبدو أنه جعله مجوفا وكثير التلافيف والالتواءات – ثم قال وأتباعه لبني إسرائيل كما أخبر الله عنهم: (… فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى …) (طه : 88).

خوار العجل
لم يكن خوار ذلك العجل إلا من جنس الصدى الصوتي Echo، فالسامري ـ كما أشرت ـ كان بارعا في الفيزياء والصناعة فجعل الزينة عجلا ذهبيا أي قام بتغيير صيرورتها الشكلية من صورة الخواتيم والأساور والخلاخيل والسلاسل وما إلى ذلك من صور المصنوعات الذهبية إلى صورة عجل أجوف ذي التواءات بحيث يرجع صدى أي صوت، فلو صاح أحد قائلا مثلا “هالووو” لردد نفس الصوت بفعل الصدى، ولو قلد أحد خوار العجول مثلا لردد نفس صوت الخوار بفعل الصدى، وهي ظاهرة فيزيائية كان السامري يعلم أسرارها جيدا بينما يجهلها بنو اسرائيل. يبدو أن بني إسرائيل فتنوا بصوت الخوار الناتج عن ظاهرة الصدى، فلم ينتبهوا إلى أن العجل الذهبي “يردد” الصوت لكنه “لا يحاور”، بمعنى لو صحت مثلا قائلا: من أنت؟ لردد الصدى صوتك في التواءات العجل الذهبي المجوف بنفس الطريقة: من أنت .. من أنت .. من أنت … وهكذا، إلا أنه لن يجيب أبدا لأنه جماد، لذلك ينبه الله تعالى على ذلك بالقول: (… أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً) (الأعراف : 148).

موقف هارون عليه السلام
لم يقصر هارون عليه السلام في دوره الرسالي بل عارض ذلك الشرك وتصدى للذين أشركوا بحزم سجله القرآن بدقة تامة ليكون شاهدا ببراءة هارون عليه السلام: (وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي) (طه : 90)، إلا أنهم استضعفوه وكادوا يقتلوه، وهذا ما سجله القرآن أيضا: (… إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي …) (الأعراف : 150).

ورجع موسى عليه السلام
قال الله تعالى لموسى مخبرا إياه بما فعله السامري: (قَالَ: فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ) (طه : 85) [فتنا: امتحنا] فرجع لقومه غضبان أسفا، وألقى الألواح: (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ …) (الأعراف : 150)، واتجه لهارون ـ خليفته على قومه ـ ولم تكن عنده معطيات نصح هارون قومه وتصديه لفعلتهم الشنعاء فانقض بقبضته الفولاذية التي لو وكز بها أحدا لصرعه قتيلا، انقض على هارون وهو بتلك الحالة من فورة الغضب ـ لله سبحانه وليس لمصلحة شخصية ـ وجرجره من رأسه: (… وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ …) (الأعراف : 150). لكن عندما استمع موسى للمعطيات التي أخبره بها هارون عليه السلام ورجاء أخيه له: (… قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (الأعراف : 150) حينئذ هدأت سورة الغضب لما علم بعدم تقصير أخيه في الرسالة فاستغفر الله لنفسه ولأخيه: (قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (الأعراف : 151). وبعد استجواب السامري واقراره بالذنب عاقبه موسى ونسف إلهه الشركي في اليم نسفا، بعد ذلك كله، هدأت نفس موسى الأبية فأخذ الألواح التي ألقاها في أثناء غضبه: (وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) (الأعراف : 154)، تلك الألواح التي قال الله عنها من قبل: (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ) (الأعراف : 145).

سلام على موسى في الخالدين

سلام على موسى وهارون


[3]

طريق موسى إلى النبوة

النبوة بين الإحقاق والاستحقاق
تتعدد الطرق إلى النبوة، فهناك الإحقاق، ويكون عن طريق الاصطناع أو غيره، وهناك الاستحقاق، ويكون عن طريق الإصطفاء أوالاختيار أو الانتقاء. أما (الاصطناع) فمعناه إرادة الله تكليف إنسان ما لصلاح في اسرته مثلا، كإحقاق نبوة عيسى بن مريم ومن قبله نبوة أمه مريم عليهما السلام لصلاح في آل عمران، أو كإحقاق نبوة موسى عليه السلام لصلاح ما في أسلافه أو لسبب آخر. الإحقاق هنا معناه إرادة الله أن يخلق إنسانا مستحقا للنبوة وتكون لعلة ما ظاهرة كصلاح الأسرة أو غير ظاهرة لا يعلمها إلا الله، والإحقاق نوع من اللطف. في هذا الإطار يبين لنا الباري سبحانه في الكتاب كيف أن صلاح الآباء قد ينعكس أثره على الأبناء فيقول: (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ …) (الكهف : 82). أبو الغلامين كان صالحا فلطف الله سبحانه بولديه حتى بلغا أشدهما واستخرجا كنزهما. ويقول أيضا: (وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ. جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ) (الرعد : 22 – 23) وهكذا يحدث إحقاق للصالحين بصلاح آبائهم وذويهم.

وفيما يتعلق بالنبوة يقول الباري سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ) (آل عمران : 33)، فعمران عليه السلام كان صالحا، وكانت امرأته صالحة، فجعل الله سبحانه نبوة في ذريته، جعل ابنته مريم عليها السلام من الأنبياء، وجعل ابن مريم عليهما السلام من الأنبياء. وإبراهيم عليه السلام كان صالحا، بل كان صديقا نبيا، فجعل الله سبحانه نبوة في ذريته، ومن ذريته موسى عليه السلام. أما الاستحقاق فمعناه أن يصل الإنسان بعبادته واخلاصه ـ دون أن تخطر فكرة النبوة عليه ودون أن يرجوها ـ إلى منهى الصفاء أو منتهى الخير أو منتهى النقاء. فأما (الإصطفاء) فمعناه تكليف الأصفى أي الأكثر صفاء، وأما (الاختيار) فمعناه تكليف الأَخْيَر أي الأكثر خيرا، وأما (الإنتقاء) فمعناه تكليف الأنقى أي الأكثر نقاء. ولعل نبوة إبراهيم عليه السلام أو عمران أو غيرهما كانت من نوع (الاستحقاق) اصطفاءا أو اختيارا أو انتقاءا.

إرهاصات النبوة
يقول الله سبحانه: (إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى. أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَ لِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي. إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى. وَ اصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) (طه : 38 – 41)

ويقول الله سبحانه كذلك: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ. فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ. وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ. وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ. وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ. فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) (القصص : 7 – 13)

كانت نشأة موسى عليه السلام في قصر فرعون آية كبرى، ففرعون علا في الأرض، وقسم أهلها شيعا، واستضعف بني اسرائيل، يذبح أبنائهم ويستحيي نسائهم. أما موسى وكان من أبناء بني إسرائيل فلم يطله فرعون بأذى ولكن العكس تعهده بالحماية. إلقاء المحبة على موسى عليه السلام هو نوع من اللطف، وكل ذلك يدخل في باب الإصطناع.

ولتصنع على عيني
لفظ (عين) ولفظ (عون) يشتركان في نفس الحروف وبالترتيب، العين، ثم حرف العلة، ثم النون. وتم استخدام لفظ (عين) بدلا من لفظ (عون) للدلالة على فيض ذلك العون، فالياء أكثر حروف العلة إنسيابية وليونه وسهوله في الخروج من مخرجها، وهي تدل بذلك على سيولة عون الله سبحانه لموسى عليه السلام. فكأن عون الله لموسى يسيل سيلا ويفيض فيضا، وهذا ما نلاحظه من خلال الألطاف الكثيرة التي حفت بموسى بدءا بالإيحاء لأمه، مرورا بسلامته أثناء رحلة التابوت في اليم، مرورا برضاء آل فرعون عنه وقبوله وحبه ثم اعادته لأمه كي تكون له ظئرا انتهاءا بنشأته معززا مكرما في القصر الفرعوني. يدل لفظ (عين) من الناحية اللسانية على سيولة وفيضان العون، والعون هو العناية والاعتناء، فكلها ألفاظ تعود لجذر واحد يدل على الإحاطة والرعاية الشاملة التي تدل على عظيم اصطناع الله. ولفظ (اصطناع) يدل على (الصنيع) وهو اسداء الشيئ، أي أن الله أسدى لموسى عليه السلام معروفا جليلا برعايته وعنايته وإعانته التي سالت سيلا وفاضت فيضا حتى غرق ذلك القلب الطاهر فيها، غرق في فيوضات من العناية الربانية، وسيولات من الرعاية الإلهية حتى شب الرضيع عن الطوق واستوى فآتاه الله حكما وعلما:

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (القصص : 14).


[4]

هل إحقاق النبوة يتعارض مع الإختيار؟

علمنا مما سبق أن النبوة تكون بـ (الإحقاق) كما تكون بـ (الاستحقاق). ربما يكون تصور عدم التعارض بين (الاستحقاق) و (الاختيار) أي خلق العباد لأفعالهم الاختيارية واضحا في الأذهان، لأن (مرشح) النبوة يخلق فعل النبوة بإرادته بمعنى أنه يصل لمقام النبوة بالاجتهاد الذاتي والاخلاص والورع والتقوى وغير ذلك من الأفعال الاختيارية. لكن تصور عدم التعارض بين (الإحقاق) و (الاختيار) ليس بنفس الدرجة من الوضوح. قد يقول قائل مثلا إن مبدأ (الإحقاق) أي جعل النبوة مستحقة لشخص ما في مهده أو قبل مولده يؤدي للقول بالجبر وهذا خطأ. سبب هذا الخطأ عدم وضوح مفهوم الاحقاق في الأذهان.

إن إحقاق النبوة هو نوع من اللطف الإلهي، واللطف الإلهي يرتبط إلى حد كبير بالاستحقاق، فكأن التكليف بالنبوة هو نوع من الاستحقاق، لكن لعلة ليست ذاتية للنبي ـ في بادئ الأمر ـ ولكن لعلة أخرى كصلاح أبويه. اللطف معناه تهيئة الظروف المحيطة بالفعل لكن إحداث الفعل يبقى في النهاية في يد الفاعل نفسه. فالأب مثلا قد يهيئ لابنه ظروف الزواج بأن يؤسس له شقة الزوجية، وييسر له سبل الحصول على عمل ما ينفق منه، ويعينه في اختيار الفتاة الصالحة، لكنه لا يجبر ابنه على الزواج بعد كل هذا فيبقى قرار الزواج بيد الإبن. لطف الله لا يعني إذن خلق فعل ما، ولكنه يعني “تهيئة” الأجواء التي إن أحدث الفاعل فعله في ظلها ربح وإن لم يستثمرها فلم يحدث فعله خسر. هناك مثل ألماني شهير أترجمه فيما يلي: (إنك قد تقرر إحضار الماء للحصان، لكن الحصان هو الذي يقرر هل يشرب أم لا). صاحب الحصان قد يحضر للحصان الطعام والشراب وهذا لطف وهو فعل لصاحب الحصان. أما قرار الإقبال على الطعام والشراب أم الإدبار عنهما فهو فعل للحصان نفسه وليس لصاحبه. أقول بعد ذكر المثالين السابقين ـ ولله المثل الأعلى ـ إن الله تعالى أحدث لطفا تجلى مظهره في الرعاية التامة لموسى عليه السلام إلى أن يصل لمرحلة التكليف، فإن وصل لمرحلة التكليف فإن التحكم في النبوة ينتقل من مرحلة (الإحقاق) إلى مرحلة (الاستحقاق). إحقاق النبوة هو إذن بمثابة تهيئة وإعداد لقرار الإنسان بأن يصل بفعله لمقام النبوة أي يصير مستحقا لها. لذلك يقول الله تعالى مخبرا عن موسى عليه السلام:

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (القصص : 14)

حيث يدلنا على أمور هامة جدا. أما قوله تعالى (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا) فيدل على أن الله سبحانه منحه (حكما) و(علما) – حينما وصل لمرحلة التكليف واشتد عوده – أي أصبح مرجعا وعالما من لدن الله تعالى وليس ذلك سوى إعلان نبوة موسى عليه السلام. أما قوله تعالى (وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) فيدل على أمرين أولهما: أن موسى عليه السلام كان من المحسنين، والإحسان فعل اختياري وليس اضطراري. ثانيهما: أن إيتاءه النبوة ـ الحكم والعلم ـ هو جزاء ذلك الإحسان. أي أن نبوة موسى مرت بمرحلتين: (المرحلة التمهيدية) وهي مرحلة الإحقاق بلطف من الله لعلة ما كصلاح أم موسى وأبيه مثلا ثم جاءت (المرحلة النهائية) وهي مرحلة الاستحقاق لكونه من المحسنين. المرحلة الأولى يمكن تشبيهها بإحضار الطعام للطاعم والمرحلة الثانية بمثابة تناول الطعام من قبل الطاعم. أي أن موسى عليه السلام قدم خلال تلك الفترة مسوغات تعيينه في منصب النبوة. لم تكن تلك المسوغات سوى الصلاح والتقوى والإحسان وعدم رجاء النبوة. رجاء النبوة معناه عدم الإخلاص في الفعل لكن تمام الإخلاص يتحقق بعدم رجاء النبوة. هب أن موسى عليه السلام لم يقدم حيثيات ومبررات استحقاقه للنبوة. في هذه الحالة ما كانت تنفعه الإرهاصات الأولى للنبوة. لذلك يقول الله تعالى عن شخص ما لم يسمه أتته آيات الله فانسلخ منها:

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ) (الأعراف : 175)

فيدل قوله تعالى (آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا) على إيتاء ذلك الشخص لطفا من الله بالنبوة. نلاحظ أنه قال (آتيناه) ولم يقل (أتته). لو أنه قال: (أتته آياتنا) لقلنا أنه كبقية البشر، فنحن جميعا أتتنا آيات الله، فالشمس مثلا آية من آيات الله، وعجائب التكوين الفسيولوجي للإنسان مثلا آية من آيات الله، وهكذا، لكنه قال (آتيناه) بما يدل على أنه ليس إنسانا عاديا بل مرشحا لمنصبا ساميا هو منصب النبوة فماذا فعل؟ يقول الله تعالى: (فَانسَلَخَ مِنْهَا …) أي أننا هنا أمام النموذج العكسي لنموذج موسى عليه السلام، فموسى عليه السلام آتاه الله آيات ذكرنا بعضا منها في مقدمة البحث، لكنه قبلها فصار من المحسنين المستحقين لمقام النبوة. أما هذا الشخص المجهول فقد انسلخ من آيات الله أي رفض ألطاف الله أي أن قرر عدم استحقاقه لمنصب النبوة. لو اتبع تلك الآيات لأصبح مستحقا لكنه انسلخ منها (فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ).

وإذ كان سؤال البدء في مبحثنا اليوم هو: هل إحقاق النبوة يتعارض مع الإختيار؟ فأرجو أن تكون الإجابة الآن واضحة في الأذهان وهي لا تعارض بين إحقاق النبوة والإختيار لأن إحقاق النبوة يمثل مرحلة تمهيدية على طريق استحقاق النبوة أما استحقاق النبوة نفسه فيكون بفعل إختياري حر قد يفعله المرشح فيستحق حينئذ النبوة وقد لا يفعله فيسقط عندئذ إحقاق النبوة واستحقاقها.

سلام على مستحق النبوة من رب العالمين

سلام على موسى في المحسنين

الحسيني

Published in: on جانفي 5, 2008 at 1:02 م  اكتب تعليقُا  

The URI to TrackBack this entry is: https://alhousseiny.wordpress.com/2008/01/05/%d8%af%d8%b1%d9%88%d8%b3-%d9%88%d8%b9%d8%a8%d8%b1-%d9%85%d9%86-%d8%ad%d9%8a%d8%a7%d8%a9-%d9%85%d9%88%d8%b3%d9%89-%d8%b9%d9%84%d9%8a%d9%87-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%84%d8%a7%d9%85/trackback/

RSS feed for comments on this post.

أضف تعليق