[1] السميع
قال القاضي عماد الدين أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد الهمداني الأسد أبادي المعتزلي البصري الشهير (415 هجرية) في كتابه “المختصر” ما يلي بتصرف يسير وإضافة التشكيل والخطوط:
(وهو سميعٌ بصيرٌ مدركٌ للمدرَكات إذا وُجِدت، لأنه حيٌ لا آفةَ به، فيجبٌ أن يكون مختصاً بهذه الصفات إذا وُجِدت المسموعَات والمُبصَرات والمدرَكات).
أقول: إختصاراً للأمر أركز تعليقي على صفة (السميع)، وما يجري عليها من كلام يلحق كذلك بصفتي (بصير) و(مُدرِك). لفظ (سميع) هو صيغة مبالغة من اسم الفاعل (سامع) للدلالة على الإحاطة التامة بالمسموع، والمسموع مفعول أي: اسم المفعول. أما الأصل لتلك الإشتقاقات فهو الفعل الماضي المجرد الثلاثي (سَمِعَ)، ومضارعه هو (يسْمَعُ)، ومصدره هو (سمْعَاً). عبارة (الله سميع) عبارة عن جملة اسمية خبرية تتكون من مبتدأ وخبر مرفوعان، والسميع هو – كما ذكرت للتو – اسم فاعل بصيغة المبالغة. وكلمة (المسموعات) جمع للفظ (المسموع) وهو اسم مفعول. تعبير (إذا وُجِدت المسموعات) هو تعبير شرطي يحترز به عن انعدام المسموعات. مقتضى ذلك الشرط هو أن الباري سبحانه يسمع كلَ مسموع على وجه الإحاطة إذا وُجِدَ ذلك المسموع، فإن لم يوجد المسموع فلا يوجد محل للقول بالسمع أو عدمه في هذا المقام. جدير بالذكر أن تلك الحالة الأخيرة لا تعتبر منقصة ولا مسلبة (من السلب) لصفة (السميع)، وإلا للزمنا أن نذم الواحدَ منا على عدم سماع غير المسموع، ولا يفعل ذلك إلا فاقد العقل. إن معيار المدح والذم إنما هو سماع المسموعات حال وجودها وليس حال إنعدامها، فإن وجد المسموع ولم يسمعه السامع كان ذلك في هذه الحالة نقصاً ومسلبة وهو ما يتنزه الله سبحانه عنه. يدل كلام القاضي رحمه الله على أن الباري سبحانه سميعٌ بكل مسموع أو بكل ما يصح أن يُسمَع حال وجود ذلك المسموع. أما المجبرة ومن يدور في فلكهم فيلزمهم أن يكون الله سميعاً بالمسموعات منذ الأزل وهذا ضلال عن الصراط المستقيم، وهنا ينبغي أن نلزمهم بقول الله تعالى:
(قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (المجادلة : 1)
بسؤالهم: هل سمع الله تعالى قول تلك المرأة منذ الأزل أم بعدما تحاورت؟ فإن قالوا: (منذ الأزل) خالفوا القرآن وسقطوا في الشرك بإثبات أزلي آخر مع الله، وإن قالوا: (بعدما تحاورت) فارقوا مذهبهم الجبري وقالوا بما نقول به كأهل تنزيه واختيار.
قال القاضي عماد الدين أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد الهمداني الأسد أبادي المعتزلي البصري الشهير (415 هجرية) في كتابه “المختصر” ما يلي بتصرف يسير وإضافة التشكيل والخطوط:
(فإن قال: إنما يسمعُ أحدُنا ويدركُ بالآلات، فإذا استحالت على الله تعالى فكيف يوصف بذلك؟ قيل له: إننا نحتاج إلى الآلات لأنَّا لأجلِ الحياةِ نسمع ونرى، لا كما يفعل لا بآلة، من حيث كان قادراً لذاته).
أقول: الله سبحانه حيٌ لذاته، وليس لمعنى زائد عن الذات، بينما نحنُ لسنا أحياءً بذواتنا، وإنما بمعنى خلقه الله فينا، لذلك تحتاج حياتنا إلى محالٍّ لتلك الحياة، فنحتاج مثلاً إلى آلة (الأذن) وما يلحق بها من جهاز سمعي داخلي لكي تكون محلاً للسمع، وإلى آلة (العين) وما يلحق بها من جهاز بصري داخلي لكي تكون محلاً للبصر وهكذا. الإنسان عاجز ومفتقر لتلك الآلات التي تصح أن تكون محلاً لحياتنا، أما الباري سبحانه، فهو قادر لذاته فلا يعجز، وغنيٌ لذاته فلا يفتقر لشيئ، وحيٌ لذاته فلا يحتاج لآلات تكون محلاً لحياته لذلك يفارق الواحد منا ويبين عنه بينونه تامه، وصدق سبحانه إذ يقول:
(…. لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الشورى : 11)
خلاصة ما قاله القاضي رحمه الله هو أن الله تعالى سميع بكل مسموع إذا وُجِد ذلك المسموع، بصيرٌ بكل مبصَر إذا وُجِد ذلك المبصَر، مدركٌ لكل مدرَك إذا وُجِد ذلك المدرَك، وهو يستحق كل ذلك لذاته وليس لأي معنى زائد عن الذات، وهو كلام نفيس حقاً نتفق مع القاضي رحمه الله فيه. في النهاية يطيب لي تقديم الإحصائية القرآنية التالية:
إحصائية قرآنية
(1) ورد تركيب (السميع العليم) في الكتاب في 15 موضعاً، وورد تركيب (سميع عليم) كذلك في 15 موضعاً، فيصير مجموع المرات التي ارتبط فيها صفتا السمع والعلم 30 موضعاً.
(2) ورد تركيب (السميع البصير) في الكتاب في 4 مواضع، وورد تركيب (سميع بصير) في 3 مواضع، فيصير مجموع المرات التي ارتبط فيها صفتا السمع والبصر 7 مواضع.
(3) ورد تركيب (سميع الدعاء) في موضع واحد فقط.
(4) ورد تركيب (سميع قريب) في موضع واحد فقط.
[2] القدير
يقول قاضي القضاة رحمه الله في “المختصر”:
(هو قادرٌ لصحة الفعلِ منه، والفعلُ لا يصحُّ إلا من قادر على ما نعقله في الشاهد)
أما قوله (هو قادرٌ) فجملة اسمية خبرية تتكون من مبتدإ وخبر مرفوعين، ولفظ (قادر) اسم فاعل مشتق من الفعل الماضي الثلاثي المجرد “قَدِرَ” ومضارعه هو “يقدِر” ومصدرة هو “قدرة”. أما (القدير) فهو اسم الفعل الدال على المبالغة واللامحدودية والإتساع والشمول في القدرة، فهو القدير، سبحانه وتعالى. أما اللام في قوله (لصحة) فهي لام السبب / التعليل، أي أن العقل حكم بأن الباري سبحانه قادرٌ بسبب ما نراه من الأفعال التي صحَّت منه، ونعلم أن الفعل لا يصح إلا من قادر.
(فإن قيل: هو لم يزل قادرا أم لا؟ قيل له: نعم، لأنه لو لم يكن كذلك، لكان يقدرُ بأن يجعل نفسه قادراً، ومن ليس بقادر لا يصح منه الفعل، وهذا يتناقض، فهو إذاً قادرٌ فيما لم يزل ولا يزال، لأنه لذاته قادرٌ)
أما التساؤل (هو لم يزل قادرا أم لا؟) فمعناه: أقادرٌ هو منذ الأزل أم لا؟ والجواب: نعم، هو قادر منذ الأزل، لأنه قادرٌ لذاته، لا لمعنى ولا لعلة اقتضت اقتضى من أجلها أن يكون قادراً، ومن كان هذا حاله فإنه يظلُ قادراً فيما لم يزل، أي: منذ الأزل، ولا يزال، أي: إلى الأبد، بمعنى أن صفة القدرة لما كانت صفة ذات، لزم من ذلك أن يكون قادراً وقديراً منذ الأزل وإلى الأبد.
(فإن قيل: يُجَوَّزُ على الله تعالى العجزُ؟ قيل له: لا، لأنه قد ثبتَ أنه قادرٌ على كل مقدور يصح أن يقدر عليه، حتى لا جنس ولا قُدَرَ لا وهو قادر عليه، فمحال أن يعجز)
أما (العجز) فهو عكس (القدرة)، ولما كان الله تعالى قادرا لذاته، امتنع عليه أن يكون عاجزا، فهو القادر الذي لا يعجز، وهو القدير على كل مقدور يصح أن يقدر عليه. أما قوله (كل مقدور يصح أن يقدر عليه) ففيه احتراز عما لا يدخل في جنس المقدورات، أي احتراز عما لا يصح أن يتعلق به قدرة، مثل الاستحالات العقلية كتزاحم الضدين في محل واحد، فإنه لا يصح أن يقال: أيقدر عليها أم لا، لكونها مما لا يصح أن تتعلق به قدرة القادر.
يقول العلامة السلفي المستنير السيد محمد رشيد رضا الحسيني رحمه الله في رسالة (أحكام العقل):
(يشترك الواجبُ والمستحيل العقليان في أنهما لا تتعلق بهما قدرة الله تعالى، لأن وظيفة القدرة الإيجاد والإعدام، والواجب وجوده لذاته فهو قديم ويستحيل عدمه، والمستحيل منتفٍ لذاته، ولو أمكن أن يوجد لما كان مستحيلاً، فلا يقال: إن الله تعالى قادرٌ على إعدام الواجب، كذاته تعالى وتقدس، أو إيجاد المحال كجعل الشيئ موجوداً ومعدوماً، أو ساكناً ومتحركاً في آنٍ واحد، ولا يقال: إنه ليس بقادر، إذ ليس هذا من وظيفة القدرة فيثبت لها أو ينفى عنها) (انتهى)
أقول: هذا تقريرٌ جليل ونفيس، فإن الواجب لذاته، والممتنع لذاته لا تتعلق بهما قدرة، أي بتعبير قاضي القضاة رحمه الله: ليست من المقدورات التي يصحُّ أن يُقدَرَ عليها. لذلك فعندما يقول الله تعالى:
(…. إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (البقرة : 20)
فإننا نعلم أن المقصود هنا هو الشيئ الذي يصح أن تتعلق به قدرة الله تعالى. يمكننا تعميم النتيجة السابقة من وحي كلام قاضي القضاة رحمه الله فنقول: الله يقدر على كل مقدور يَصِّحُّ أن يُقدَرَ عليه، ويسمع كل مسموع يَصِّحُّ أن يُسمَع، ويبصر كل مُبصَر يَصِّحُّ أن يُبصَر، ويدرك كل مُدرَك يَصِّحُّ أن يُدرَك، ويعلم كل معلوم يَصِّحُّ أن يُعلَم، فكل تلك الصفات المتقدمة من (القدرة) إلى (العلم) مرورا بالسمع والبصر والإدراك هي صفات ذات يستحقها الله لذاته، لا لعلة، ولا لمعنى، بل هو لذاته قادر، وهو لذاته سميع، وهو لذاته بصير وهكذا. أما ما لا يَصِّحُّ أن يُقدَرَ عليه فلا تتعلق به قدرة، وما لا يَصِّحُّ أن يُسمَع فلا يتعلق به سمع، وما لا يَصِّحُّ أن يُبصَر فلا يتعلق به بصر، وما لا يَصِّحُّ أن يُدرَك فلا يتعلق به إدراك، وما لا يَصِّحُّ أن يُعلَم فلا يتعلق به علم.
[3] العليم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، ثم أما بعد. إستكمالاً لما بدأتُه من شرحٍ وجيز لكلام القاضي أبي الحسن عبد الجبار رحمه الله حول الأسماء والصفات، أسطر فيما يلي شرحاً وجيزاً لكلامه رحمه الله حول جليل الكلام فيما يتعلق باسمه تعالى “العليم” سائلاً المولى تعالى التوفيق، وأبدأ بمقدمة وجيزة في بضعة أسطر، فأقول: يختلف (العلم) عن (التعلم) من حيث أن (التعلم) يعني اكتساب العلم وتحصيله، أما (العلم) فهو إدراك المعلوم سواء بتعلم أم بغير تعلم كالرؤى والإلهام والشهود وغير ذلك. بديهي ألا يوصف الله سبحانه بأنه (متعلم) بل يوصف بأنه (عليم) أو (عالم). أما لفظ (عالم) فهو اسم فاعل من (عَلِم)، وفعل (عَلِم) معناه إدراك العلم، أما فعل (تعلَّم) معناه اكتساب العلم. أما لفظ (عليم) فهو صيغة مبالغة من (عالم). هناك إذا مستويان. مستوى أدنى: تعلَّم / يتعلَّم / تعلُّماً / متعلِّم، ومستوى أعلى: عَلِم / يعلم / علماً / عالِم / عليم. أما المستوى الأدنى فلا يصح أن يوصف به الله لكنه يوصف بالمستوى الأعلى: (عَلِم) الله المعلوم أي أدركه وأحاط به وأحصاه، و(يعلم) الله المعلوم أي يدركه ويحيط به ويحصيه، لذلك فإن الله تعالى هو (عالم) لا يجهل وهو بكل شيئ (عليم) وهو (علاَّم) الغيوب. والآن إلى متن كلام القاضي رحمه الله – باللون الأحمر – من خلال كتابيه “المختصر” و”الشرح” وتعليقي الوجيز عليه.
(1) كتب قاضي القضاة عماد الدين أبو الحسن رحمه الله في ” المختصر في أصول الدين” ما يلي (الكلمات بين القوسين المعكوفين […] من وضعي):
وهو [الباري عز وجل] عالمٌ، لأن في الشاهد [الفعل] المحكم لا يصحُ إلا من عالم، كالكتابة والبناء والصياغة، وما خلقه اللهُ تعالى أبلغُ في الإحكام من قِبَل ذلك، نحوُ خلقه الإنسان على عجائب ما فيه من الصنعة والأعضاء والآلات ومجاري الطعام والشراب وغير ذلك، فيجب أن يُحكَم بأنه عالمٌ.
تعرِّف المعتزلة (العالِمَ) بأنه: من صح منه الفعل المحكم. فدليل أن شخصاً ما عالمٌ بهندسة البناء هو قيامه بتصميم وإنشاء مبنى على وجه صحيح محكم، وهكذا. إذا نظرنا إلى الكون المُشاهَد من أصغر ذرة إلى أكبر مجرة وجدناه فعلاً صحيحاً محكماً يدل على أن فاعله، الله تعالى، عالمٌ لا يجهل. نلاحظ من خلال التعريف السابق ربط وصف (عالِمَ) بما صدر عنه هو من فعل صحيح محكم وليس بما صدر عن غيره، فلو أن الفعل المحكم صدر عن x لم نحكم بأن y هو عالِمَ ولكنا نحكم بأن x هو العالِمَ. فيما يتعلق بالبشر نجد أن صحة صدور الفعل المحكم كالبناء مثلاً تستلزم وجود معلومات يتم توظيفها لإحداث ذلك الفعل المحكم، أما فيما يتعلق بالله، فلا يُجوَّز ذلك، لأن الله عالم لذاته وليس لمعلومات ولا بمعلومات. أي أن وصف الله تعالى بكونه (عالماً) لا يستلزم أنه يعلم بمعلومات، ولا بعلم، بل يعلم بذاته، ولذاته.
فإن قيل: أليس العالم منا يعلم شيئاً دون شيئ، وفي وقتٍ دون وقت، فما أنكرتم من هذا في الله تعالى؟ قيل له: هو عالم لذاته لا بتعلم ولا بأن جعله غيرُه عالماً.
تركيب “عالم لذاته” يتكون من ثلاثة أجزاء رئيسية: “عالم” وهو اسم فاعل من الفعل الماضي الثلاثي المجرد “عَلِمَ”. “اللام” وهي للإستحقاق. “ذاته” أو “ذات الله” أي: الله نفسه بما له من وجود حقيقي. تدل عبارة “عالم لذاته” أن الله تعالى مستحقٌ لصفة “عالم” بسبب ذاته وليس بسبب زائد عن الذات علماً كان أم معنىً أم صفةً أم أي مسمى آخر. أما قوله “لا بتعلم” فنفي، والباء للإستعانة، فيكون المقصود نفي أن يكون الله عالماً بواسطة أو بسبب التعلم ولا مستعيناً بأي معلومات أو علومً مكتسبة، فعلمه حضوري لا حصولي.
فإن قال: فما الدليل على ما قلتم [أي: أن الله عالم لذاته لا بعلم]؟ قيل له: لأنه لو كان يعلم بعلم لكان علمه … إما أن يكون محدثاً أو قديماً، ولو كان علمه محدثاً لأدى إلى أن يكون أحدثه من قبل أن يعلمه ومن ليس بعالم لا يجوز أن يفعل العلم، وهذا فاسد. ولو كان علمه قديماً لوجب أن يكون وجوده واجباً يستغني عن موجد وفاعل، وهذا موجب إنه مساوٍ لله في الإلهية، وأن لا يكون الله عز وجل بأن يكون إلهاً أولى من علمه وقدرته القديمين، وفساد ذلك يبين إنه تعالى عالم لذاته وقادر لذاته على ما قلناه.
هناك قولان في المسألة، أولهما: الله عالم لذاته وليس لمعنى ولا لصفة ولا لأي شيئ زائد عن الذات، وهي المقولة الصائبة. ثانيهما: الله عالم بعلم أو عالم بمعلومات وهي مقولة فاسدة تستلزم أحد إحتمالين: إما أنه علم حادث وهو احتمال فاسد، وإما أنه علم قديم وهو كذلك احتمال فاسد للأسباب التي بينها القاضي رحمه الله في كلامه.
(2) كتب قاضي القضاة عماد الدين أبو الحسن رحمه الله في “شرح الأصول الخمسة” ما يلي (الكلمات بين القوسين المعكوفين […] من وضعي):
يلزم [المكلف] أن يعلم أنه تعالى كان عالماً فيما [لم يزل]، ولا يجوز خروجه عن هذه الصفة بجهل أو سهو، وأنه عالم بجميع المعلومات على الوجه الذي يصحّ أن تُعلم عليه.
أما قوله أن الله تعالى (كان عالماً فيما لم يزل) فمعناه أن اللهَ سبحانه عالمٌ أزلاً، أي أنه كان على هذه الصفة منذ الأزل، فتعبير “لم يزل” يدل على الماضي لأن فعل “يزل” وإن كان مضارعاً، إلا أنه قد سُبِق بحرف نفي وجزم وقلب، ومعنى كونه حرفَ قلبٍ أي يقلب زمن الفعل المضارع فيصير زمناً ماضياً. ومعنى كونه حرفَ نفي أي ينفي زوال صفة العلم عن الله سبحانه فيما لم يزل إذ هي صفةُ ذات. وأما قوله أن الله تعالى “لا يجوز خروجه عن هذه الصفة بجهل أو سهو” فمعناه أنه سبحانه يكون عالماً فيما لايزال، بمعنى أن اللهَ سبحانه عالمٌ أبداً، أي أنه يكون على هذه الصفة إلى الأبد، فتعبير “لا يزال” يدل على الحاضر والآتي لأن فعلَ “يزال” فعلٌ مضارعٌ لم يسبقه حرف قلب بل سبقه حرف نفي. ومعنى كونه حرفَ نفي أي ينفي زوال صفة العلم عن الله سبحانه فيما لا يزال إذ هي صفةُ ذات، فلا يلحقه جهلٌ ولا سهوٌ ولا أيُ سالبٍ لتلك الصفة. وأما قوله: “وأنه عالم بجميع المعلومات على الوجه الذي يصحّ أن تُعلم عليه” فمعناه أن الله قد أحاط بكل شيئ علماً، ليس على أي وجه، ولكن على الوجه الذي يصحّ أن تُعلم عليه. حرف الباء في لسانِ العرب على أربعة عشر وجهاً من الوجوه هي: الإحاطة والإلصاق والاستعانة والسببية والتعدية والمقابلة والبدل والقسم والظرفية والمصاحبة والتبعيض والتجاوز والتأكيد والإستعلاء. فحينما يقولُ: إنه عالم بجميع المعلومات، تكون دلالة الباء هنا هي الإحاطة، أي شمول العلم بالمعلوم من جميع الوجوه التي يصحُّ أن يُعلم المعلومُ عليها، فلا يفلت وجههٌ من الوجوه، ولا تغيبُ ناحيةٌ من النواحي.
أما الذي يدل على أنه تعالى كان عالماً فيما لم يزل، فهو أنه لو لم يكن عالماً فيما لم يزل وحصل عالماً بَعْدَ إذ لم يَكن، لوجب أن يكون عالماً بعلمٍ متجدد محدث، وذلك فاسد لما نبينه من بعد، إن شاء الله تعالى.
في الفقرة الأولى أشار قاضي القضاة رحمه الله إلى ثلاثة حقائق هامة، أولها: أنه تعالى كان عالماً فيما لم يزل، ثانيها: أنه تعالى يكون عالماً فيما لا يزال، ثالثها: أنه تعالى عالم بجميع المعلومات على الوجه الذي يصحّ أن تُعلم عليه. بعد أن ذكر تلك الحقائق الثلاث أخذ في التدليل – إي إقامة الدليل – على صحتها، وبدأ بالحقيقة الأولى وهي أنه تعالى كان عالماً فيما لم يزل: قوله “وحصل عالماً بَعْدَ إذ لم يَكن …” فمعناه: وصار عالماً بعد أن لم يكن، لوجب أن يكون عالماً بعلمٍ متجدد محدث، لأنه – تعالى عن ذلك – لم يكن عالماً ثم صار عالماً، وهذا قولٌ فاسد، واضح الفساد، ولا يحتاج لفضل بيان، لأن الله تعالى ليس عالماً بمعلومات، والباء هنا للاستعانة، ولكنه عالم بذاته أي لا يستعين بأي علةٍ أو معنىً زائدٍ عن ذاته.
وأما الذي يدل على أنه جل وعز يكون عالماً فيما لا يزال، هو أنه يستحق هذه الصفة لذاته، والموصوف بصفة من صفات الذات لا يصح خروجه عنها بحال من الأحوال.
ثنَّى القاضي رحمه الله بإقامة الدليل على الحقيقة الثانية، وهي أنه تعالى يكون عالماً فيما لا يزال، فقال: إنه “يستحق هذه الصفة لذاته”. أما اللام في لسان العرب فعلى سبعة عشر وجهاً من الوجوه هي الملك والإختصاص وشبه الملك والتبيين والتعليل والتوكيد والتقوية وانتهاء الغاية والاستغاثة والتعجب والعاقبة والاستعلاء والوقت والمعية والظرفية والجنس والعهد. فحينما يقولُ: إنه يستحق هذه الصفة لذاته، تكون دلالة اللام هنا هي الاستحقاق. ثم يبين بعد ذلك أن “الموصوف بصفة من صفات الذات لا يصح خروجه عنها بحال من الأحوال”.
وأما الذي يدل على أنه تعالى عالم بجميع المعلومات على الوجه الذي يصحّ أن تُعلم عليه، فهو أن المعلومات غير مقصورة على بعض العالمِين دون بعض، فما من معلوم يصح أن يعلمه عالم، إلا يصحّ أن يعلمه سائر العالمين، فيجب في القديم تعالى صحة أن يعلم جميع المعلومات على الوجوه التي يصح أن تُعلم عليها.
ختم القاضي رحمه الله كلامه في هذا الباب بإقامة الدليل على الحقيقة الثالثة، وهي أنه تعالى عالم بجميع المعلومات على الوجه الذي يصحّ أن تُعلم عليه. إذا أبصر إنسانٌ عاقلٌ سليمُ الحواس الشمس مثلاً وهي تشرق، لعلم أنَ الشمسَ بدأت في الشروق، ولا يختص ذلك الإنسان بمفرده بذلك العلم، بل يصحُّ أن يعلم مثلَ ذلك كلُّ إنسان مثله متمتعٌ بنفس الصفات. إذاً يصحُّ أن يعلمَ كلُّ عالم ما يعلمه غيره من معلومات، وفي هذا يقول القاضي: “المعلومات غير مقصورة على بعض العالمِين دون بعض، فما من معلوم يصح أن يعلمه عالم، إلا يصحّ أن يعلمه سائر العالمين”، فإن كان ذلك كذلك فإن الله تعالى – وله المثل الأعلى – يجب أن يعلم جميع المعلومات على الوجوه التي يصح أن تُعلم عليها، ويكون علمُه بما يصح أن يُعلم إحاطياً ونافذاً لحقيقة المعلوم، فالعلم هو إدراك الشيئ على ما هو عليه من وجه صحيح، والجهل هو عكس ذلك، كأن يدرك جزء من الشيئ وليس كله، أو يدركه كله ولكن على وجهٍ غيرِ صحيح، وكل هذا لا يُجوَّز على الله تعالى، لأنه العالم الذي لا يجعل، العليم الذي يعلم جميع المعلومات على الوجوه التي يصح أن تُعلم عليها.
[4] الحي
كتب قاضي القضاة عماد الدين أبو الحسن رحمه الله في ” المختصر في أصول الدين” ما يلي:
وهو [الله تعالى] حيُّ، لأن أحدَنا متى خرج من أن يكون حياً استحال أن يعلمَ ويقدرَ، ومتى صار حياً صحَّ ذلك فيه، وأحواله كلها على السلامة، فإذا كان الله تعالى عالماً قادراً فيجب أن يكون حياً لم يزل ولا يزال.
الله سبحانه قادرٌ لأن الفعل قد صحَّ منه، وعالمٌ لأن الفعلَ الذي قد صحَّ منه فعلٌ محكمٌ، ومن كان قادراً عالماً يلزم أن يكون حياً. ولما كانت الحياة صفة ذات لزم أن يستحقها الله لذاته، لا لمعاني زائدة عن الذات، أي أنه ليس حياً بحياة، لكنه حيٌّ بذاته ولذاته، فيما لم يزل، أي أزلاً، وفيما لا يزال، أي أبداً.
[5]، [6] البصير / المدرك
وهو بصير [يُبصرُ المُبصَرَات] مُدرِكٌ للمُدركات إذا وجدت، لأنه حي لا آفة به، فيجب أن يكون مختصاً بهذه الصفات إذا وجدت المبصرات والمدركات
الله تعالى هو البصير الذي يبصرُ كلَ ما يصحُّ أن يبصَرَ، والمُدرِكُ الذي يُدركُ كلَ ما يصحُّ أن يُدرَك. أما قوله “إذا وجدت” فمعناه أنه إذا انعدم كلُّ ما يصحُّ أن يبصَرَ، أو انعدم كلُّ ما يصحُّ أن يُدركُ، فلا يتعلق به بصرٌ ولا إدراك. لتقريب الصورة أقول – ولله المثل الأعلى – إن حجر المغناطيس جاذبٌ بطبعه لبرادة الحديد، فإن وجدت البرادة جذبها، وإن انعدمت فلا يصحُّ أن يتعلق بطبعه جذبٌ لانعدام المجذوب من غير أن يكون في ذلك نقص، لأن النقص معناه وجود المجذوب مع عدم انجذابه، أما انعدام المجذوب مع وجود الجاذب فلا يقدح فيه. لا يصح والحال هكذا أن يلوم المرء حجر المغناطيس إن لم يجذب المعدوم، لأن المعدومَ لا يصحُّ أن يُجذَب، ولذلك احترز قاضي القضاة فقال: “إذا وجدت” وكررها مرتين. على هذا لا يصح عقلاً أن يقال: إنَ الله يبصرُ في حين انعدام المُبصَر، ولا يصح عقلاً أن يقال: إنَ الله يُدركُ في حين انعدام المُدرَك، إنما يبصر الله كل ما يصح أن يُبصَرَ إذا وُجدَ المُبصرُ، ويدرك الله كل ما يصح أن يُدرَكَ إذا وُجدَ المُدركُ، لكونه بصير لذاته، مدركٌ لذاته، لا لعلة ولا لمعنى.
[7] الموجود
وهو جلَّ وعزَّ موجودٌ لأن المعدومَ يتعذرُ فيه أن يكونَ له مقدورٌ يصحُّ أن يفعله
لم يخلُص لفظ “موجود” للقاضي رحمه الله، لأن الموجودَ مفعولٌ، فمن فعله؟ الله ليس مفعولاً حتى يوصف بأنه موجود، بل هو الفاعل فيلزم أن يوصف بأنه الواجِدُ. الأصوب إذاً هو أن يقال: إن اللهَ تعالى “كائنٌ” بدلاً من أن يقال إنه “موجود” حتى تطابق الصياغة اللفظية الدلالةَ اللسانية للفظ متسقةً في ذلك مع الحكم العقلي الدالّ على أن الله تعالى واجدٌ وليس موجوداً.
الخلاصة
تعرضتُ ببعض التعليقات اليسيرة على متن جليل وضعه القاضي رحمه الله للمبتدئين في تحصيل علم الكلام من خلال استعراض بعض النصوص المتعلقة بقضية الأسماء والصفات مع شرحها باقتضاب. شملت تلك النصوص أن الله تعالى كائنٌ، وأنه قادرٌ، عالمٌ، حيٌّ، سميعٌ، بصيرٌ، مدرك. إضافة لما تقدم أقول: وهو أزلٌ أي الأول بلا بداية، وهو الأبدي أي الآخر بلا نهاية، إلى غير ذلك من صفات الكمال والجلال والجمال، أقدمه كتوطئة بين يدي كل مبتدئ ليألف عن طريقه النظر في كتب القاضي عبد الجبار رحمه الله ويعتادَ أسلوبه، وأهديه إلى أخي الحبيب عدلي “باحث في الفكر الإسلامي” صاحب مدونة أهل العدل والتوحيد المجيدة، والذي كان قد اقترح علي هذا الأمر، فأشكره على حسن ظنه بالعبد الضعيف، سائلاً الله تعالى ستر التقصير، راجياً من الإخوة الكرام حسن الظن باالتفسير، وإلى كل من يجد فيه فائدة تذكر.
والسلام
الحسيني